عشرة أيام في الريفيرا
كان الصباح فرنسياً نموذجياً… الحرارة سبعة عشر والسحاب الأبيض يفسح مكانه لشمس النهار، وهواء البحر البارد يسعي من الشاطئ ليزيل عن الوجوه خمول الليل، ولم تقل محطة قطار نيس جمالا؛ اجهة من الطوب الوردي بزوايا من بياض الحجر المدقوق، وكثير من عناصر الطراز الكلاسيكي الجديد، ومن الداخل المنمنمات ورسم الأسقف… كانت كالقصر.
نيس محطة رئيسية لكل من القطارات الإقليمية داخل فرنسا - TER، والأخري الدولية عالية السرعة - TGV ، وهذ الأخيرة تصل محطات فرنسا الرئيسية بإسبانيا وايطاليا وألمانيا وانجلترا، وكذلك كل من نيس وكان التي تبعد عنها 45 كيلومتر.
وجاء مقعدي القطار مقابل حسناء شابة... إنتبهت من شرودها حين جلست وتطلعت بابتسامة ثابتة، ووجه جميل... زاده لون نظارتها السوداء بياضاً، كنت اسعي الي التحدث بالفرنسية كلما أمكن... ثم تطور طموحي الي الصحبة إذ علمت ان وجهتنا واحدة، وبعد حديث جميل... لم يقطعه سوي التفات نحو ساحل الريفيرا كلما لاح من بين البيوت والتلال باغتني النداء الداخلي بخبر الوصول.. فأدارت أذنها نحو مصدر الصوت وأشرقت ابتسامتها أكثر، ثم أخرجت من الحقيبة عصا قصيرة راحت تشد فقراتها حتى استطالت وصارت كتلك التي يحملها المكفوفون...استوعبت المفاجأة...ولم يكن بدا من عرض المساعدة، فأجابت بأن صديقها الحميم منتظر على مقهى المحطة، فتبعتها بدافع الشفقة أو الفضول أو الاثنين معا... وأنا مندهش من سهولة مهمتها التي من جهلي حسبتها مستحيلة، كان بالأرضية بروزات معدنية على طريقة "برايل"... من رصيف القطار الي السلالم وهكذا حتي باب المحطة التي تقع في وسط المدينة، تبعتها بفضولي الشرقي كي أري ذلك البوي فريند الجلف الذي يترك هذه الفراشة تتكبد العناء لتصل اليه وهو مستريح
هذا المهرجان الذي يستمر 12 يوما في مايو من كل عام يدفع بزوار للبلدة الصغيرة ما بين 75 الف الي مئتي ألف، كيف تستوعبهم؟
ورغم
أننا لسنا في موسم التظاهرة السنيمائية الأشهر – مهرجان كان - إلا أنه ما ان توقف
القطار حتى انطلقت كالمندوه متتبعا الخريطة الي قصر المهرجانات علي شاطئ
"لاكروازييت" في خط مستقيم، فكان من حسن الطالع لا يبعد من المحطة سوي خمسمائة
متر
السير في شوارع كان الداخلية تسعد النفس في الحقيقة، فهي كنظيرتها في نيس جمالا... والمقاهي المكتظة رغم الشتاء غاية في الأناقة... وكذلك الجلوس،
كان المبني المنشود في
الحقيقة مخيبا لمحب للعمارة يحج اليه من بلد بعيد، لولا رأيت الناس يلتقطون عنده
الصور لما لاحظته، فقد كان متواضعا في واجهته... فلا هي كلاسيكية ولا السلم مهيب
الارتفاع... لو فرشت السجادة الحمراء على مبني آخر لتساويا، تطول السجادة في المهرجان من
السلم إلي الرصيف ثم إلي حيث تقف سيارات النجوم فيختلف وقعه خصوصا مع الأضواء، أحس
الآن بالطفل الذي رأي الملك عاريا فقال الحقيقة، وعلي يسار سلم السجادة رأيت بابا
زجاجيا يدخله جمعا من الناس الأكابر يرتدون القبعات ومعاطف الفراء... وتلاحقهم
الكاميرات، فدخلت في ركبهم حتى استوقفني حارس أمن لطيف لم يستوقف أحدا سواي، قال:
-
هل معك تذكرة لعرض الأزياء؟
-
وكيف السبيل اليها؟
-
يجب حجزها على موقع القاعة قبل ثلاثة شهور
ودفع إحدى عشرة ألف يورو
لم أفهم، ولم أرد أن
أفهم...أهذا المبلغ المهول.. ثمنا لتذكرة الدخول؟ أم هو تأمين.. للمزايدة علي
الفساتين؟ وإذ لم يكن معي سوي يوروهات ميزانية اليوم الرابع.. والتي بدأت أصلا في
التراجع، فقد ابتسمت في كبرياء للحارس المؤدب...وتعللت بنسيان الحجز في الموعد،
وواصلت المسير بمحاذاة البحر أتأمل فن البناء غير آسف على عرض الأزياء
والحق أني منيت بخيبة
منذ رأيت القصر، وأبت خيبة الأمل أن تفارقني...فالمباني على البوليفارد ليست مما
يشد اليه الرحال على الأقل لهواة العمارة لولا محلات الأزياء الشهيرة تزين طوابقها
الأرضية، وقد عوضني قليلا أن شهدت عملية فرش الشاطئ بالحصي وهي تتم أمام عيني فزاد
اشتياقي الي رمل الشاطئ في بلادي.
كانت الشمس تتوسط وحدها
السماء رغم البرودة...وان وقف السحاب الأسود في الأفق متوعدا
واضمرت في نفسي الا أعيدها...
حتي لمحت كلمة كان
بحروف ذهبية أعلي تلا بعيدأ،
الجلوس
في المساء على أحد مطاعم ومقاهي شارع فيليكس فاور (رئيس فرنسا 1841-1899) وهو مسك
ختام هذه المدينة الجميلة، فهو شارع المشاة الرئيسي علي جانبيه تصطف محلات متنوعة
تغلب عليها المقاهي ومازال يحمل أضواء المعلقة منذ الجمعة التسوق، وربما تظل كذلك
حتى رأس السنة التي لن أشهدها بالطبع للأسف، وان كنت اراها في خيالي
*****
كان
تاريخ وذكريات
وللمدينة تاريخ.. فاسم
“كان” ورد في التاريخ عام 1815 يوم مر عليها الامبراطور نابليون الأول العائد من
منفاه في جزيرة الألب فأقام فيها بضعة أيام قبل أن يكمل مسيرته شمالاً إلى باريس
وفي منتصف القرن التاسع عشر اكتشف اللورد بروغام معالمها الرائعة وسحر مناخها وحل
فيها عام 1834 ومنذ ذلك الحين بدأ السياح الإنجليز يقصدونها ولما عاد اللورد
بروغام إلى بلاده أخذ يبشر ببهاء “كان” فبدأ البريطانيون يقصدونها صيفاً وشتاء
ويبنون لهم فيها بيوتاً وفي أقل من نصف قرن وتحديداً بين العامين 1840-1890 ارتفع
عدد سكان “كان” من أربعة آلاف إلى عشرين ألف نسمة خصوصا وأنها أصبحت في آخر القرن
التاسع عشر مقراً ومرسى للمراكب السياحية والقوارب الرياضية وزوارق السباق، أما
اليوم وبعد أن أصبحت مدينة “كان” ملتقى سياحياً عالمياً لم تعد تكتفي بمرفئها
القديم الموجود غربي الكروازيت في موقع غير بعيد من قصر المهرجانات، بل إن الموانئ
والمراسي تضاعف عددها وأصبحت المرافئ الرئيسية ــ ومعظمها في الناحية الشرقية ــ
ملتقى لليخوت الجميلة ولمراكب أصحاب الملايين.
ويعد مرفأ كانتو من
أروع مرافئ الاستجمام في العالم، وهو يجمع البواخر الأنيقة واليخوت الجميلة التي
يتباهى أصحاب الملايين باقتنائها، لقد أصبحت “كان” اليوم من أهم المدن السياحية
الأوروبية حيث مهرجانها العالمي للسينما الذي يجمع كل عام وفي شهر مايو تحديداً
كبار المنتجين والمخرجين والممثلين والنقاد، ولكنها في الأشهر الأخرى تحتضن
مهرجانات الموسيقى والرقص والمسرح والإعلان، وملتقى اختصاصي السلع السمعية
والبصرية والبرامج التليفزيونية ومعرضاً سنوياً للتحف القديمة والأنتيكات الفخمة،
بالاضافة إلى أنها مركز أسواق دولية ومعارض عالمية أخرى.
السلع الثمينة
والكماليات
وبفضل الانفتاح على
الثقافة والفنون العالمية أصبحت “كان” مقصداً للسياحة والاصطياف تتكاثر فيها
المتاجر على أنواعها بدءاً بتجارة السلع الثمينة أو الكماليات، فكل ما يباع في
باريس موجود مبدئياً في “كان” مع أفضلية للأزياء الصيفية والرياضية وأدوات الصيد
والنزهة البحرية على أنواعها، كما أن المصارف تتكاثر أيضا يوماً بعد يوم بسبب كثرة
السياح الأجانب الذين يتوافدون على هذه المدينة، أما المطاعم فحدث ولا حرج،
فمأكولات العالم بأسره موجودة في “كان” مع أفضلية بالطبع للأسماك الطازجة إلى جانب
المقاهي والملاهي التي تبقى مفتوحة حتى ساعة متأخرة من الليل وبعضها حتى الفجر،
بالإضافة إلى الفنادق الفخمة والمتوسطة بدءاً بالكارلتون والماجستيك والمارتينيز
والنوغاهيلتون فضلاً عن جلسات التراس الرائعة في هذه الفنادق الفخمة، إلى جانب ذلك
هناك شارع داخلي طويل مواز للكروازيت هو شارع أنيب المعروف بحيويته حيث يلتقي فيه
السكان المحليون والغرباء ليل نهار، ويضم مجمع غراي دالبيون ملتقى قاصدي السلع
الجميلة،