بين نيس الريفيرا والقاهرة الخديوية
ميدان ماسينا الكبير بمبانيه الملونة
تقع مدينة نيس وسط الريفيرا الفرنيسة المتخمة بالمدن الرائعة، مثل كان وموناكو وأنتيب وسان تروبيه... وغيرها، لكن في نيس تشعر بأُلفة كأنك كنت هنا من قبل ... اقرأ أولا موضوع: بهجة الأنيس برؤية نيس
رغم أن المتاحف والآثار ترصع المدينة نيس كالجواهر، من البلدة القديمة الي الضواحي، الا أن وسط المدينة مُتحَف مجاني هو الاجمل، فهنا حول ساحة ماسينا الكبرى متحف مفتوح لقرنين من الفن المعماري الذي لا يُمَل، وان كنت من محبي عمارة وسط القاهرة فأنت في المكان المناسب.
***
فعلى ناصية شارعي جان ميدسان
وجورج كليمنس مبني من اواخر القرن 19، من الحجر المحلي
مزين بشرائح جِصية رأسية تعطي المبني ارتفاعا أكبر، وتعطي الشبابيك الطويلة اطارات
زخرفية بسيطة، أما الشرفات القليلة فذات بروز قليل كونها من الرخام، وينتهي المبني
بطابق أخير ذو شرفة دائرية متصلة مسقوف بالقرميد الاحمر
ناصية ش جان ميدسان وش جورج كليمنس
وعلي الناصية المقابلة مبني
يتلوه في الزمن وان لم تختلف عناصره المعمارية سوي في تغطية حجر البناء
والزخرفة الجصية التي تعلو الشبابيك واختفاء التراسات الصغيرة
وعودة الي عنوان الموضوع … فما
علاقة هذه المباني بالقاهرة التي تبعد آلاف الأميال؟
قارن إذا عمارة عمر أفندي الشهيرة في شارع عبد
العزيز وسط القاهرة بمبني ش كليمنس وسط نيس، فكلاهما ابن نفس الحقبة التي سميت بالحسنة Belle Époque"" لخلوها من الحروب.
بناية ش كليمنس بمدينة نيس
بناية عُمَرأفندي- شارع عبد العزيز القاهرة
عمارة رقم 4 ش طلعت حرب بالقاهرة
أليسوا جميعا أشقاء لعمارات القاهرة الخديوية (وسط البلد) التي خططها المهندس الفرنسي جورج هاوسمان؟ وبنيت على نفس الطرز، بل ربما بذات المعماريين الذين استدعاهم الخديوي إسماعيل من فرنسا وإيطاليا؟
يجيب الكاتب Mercedes Volait في الدورية المعمارية (Architecture beyond Europe) (1):
“كلمة مفتاحية لمصر: أن فترةBelle Époque"" لم ترتبط بمكان خارج فرنسا أكبر من ارتباطها بمصر في تاريخها الحديث ، بدءاً من الاحتلال الفرنسي (1798) الي ما بعد الحربين العالميتين”
وكما في وسط القاهرة… تزخر
شوارع نيس الجانبية بمباني بديعة من أوائل القرن الماضي، تختلف في واجهاتها وان اشتركت
في مفردات طرازي فن الديكو (Art Deco)
والفن الجديد (Art Nouveau)
بعناصرها الشهيرة:
-
خطوط الزخارف والفتحات منحنية مستوحاة من الطبيعة،
-
عدم تماثل واجهة المبني حول محور (Non- Symmetrical)،
-
ايقاع الفتحات متجانس بغير
انتظام، فنافذة واحدة تعلوها ثلاثة نوافذ بنفس عرض النافذة اسفلهم،
-
اطار النوافذ ناتئة ومزخرفة
بأوراق النبات أو بأشكال عضوية كتماثيل الحيوانات وما شابه،
-
أسوار الشرفات من الحديد
المشغول ( Ferforgé)،
- إبراز رأسية المبني بجمع
نوافذ الطوابق في وحدات طولية تنتهي بعقد فوق النافذة العليا،
-
وأخيرا قبة من طراز الفن
الجديد تعلوا ركن المبني.
*****
الحفاظ علي التراث:
لكن كيف ظلت مباني نيس كأنما بنيت بالأمس؟ ومن هو الحارس علي هذا التراث؟
في منتصف القرن الماضي كان عدد مباني هذا الطراز حول الأربعة آلاف، بدأت في
التناقص بفعل الحداثة، أو في الانزواء بفعل الإهمال حتي اصبحت أخرالقرن أقل من النصف، عندها كون سكان من المدينة رابطة للحفاظ على ارث "الحقبة
المزدهرة" وتعزيزه قبل أن يختفي تحت وطاة الاسمنت والألومنيوم، وأسمت الرابطة
اسما عاطفيا آلف حولهم اهتمام العامة (Gloria Mansion)، وهو اسم أحد أجمل قصور فرنسا.
ثم قامت بجرد المباني وتصنيفها الي طرز، وتثقيف مالكيها بقيمة ما
بين أيديهم من قيمة (عقارية أو مالية) وتقديم أي مشورة تسمح للمبني بالعيش
والتنفس، ثم الدفاع عن المبني بدعم من السلطات العامة أحيانا وفي مواجهتها أحيانا
أخري، حتى أنقذوا عشرات المباني… كانت ملوثة أو مغطاة بالطلاء، ولأن سنة الله في
خلقه أن لكل مجتهد نصيب… حصلوا أخيرا على دعم اليونسكو التي سجلت هذه المباني
كتراث عالمي.
حتى المباني التي تجد لتي يستحيل عليها تطبيق الطرز
القديمة – ولا ينبغي عليها فعل ذلك- وضعت لها الرابطة مع البلدية معايير بمفردات العصر تننسجم مع يجاورها من مباني الحقبة المزدهرة كما في هذا المبنيان في الصورة العلوية
*****
القاهرة الخديوية: فان كان عصر القاهرة الخديوية
أحد أزهى العصور
التي مرت علي عمارة القاهرة، ومازالت تحتفظ بمظاهر مخطط هاوسمان و
شبكة شوارع التي تربط الاثني عشر ميدان كنقاط التقاء، رغم انهيار مدنا أخري نشأت بعدها، كما أن كثير من مبانيها مازال قريبا من
حالته الأصلية، فان جهد الحفاظ عليها معرضا مفتوحا للعمارة وطرز مابين القرنين التاسع عشر والعشرين مازال في مقدور محبيها ومحبي العمارة بشكر عام
*****
خاتمة
وان كان السفر رحلة في
الجغرافيا والثقافة، فان نقطة البداية والعودة هي القاهرة، وكما في مقاهي وسط القاهرة العريقة، جروبي والأمريكين والبن البرازيلي وغيرها… أسفل العقار 33 مقهىً (Grand Café de Leyon) العربق الذي يعود الي عام 1870، لا يكتمل اليوم الا بقهوة ساخنة تحت مظلته في دِفء المشاعل المدلاة من السقف، ومع الموسيقي المتداخلة بحديث الجالسين، ومزيج من رائحة مخبوزات المقهى مع عبير عطور فرنسية للجالسين على المقهى، أوالمارين من امامه … وان كنت مدخنا سيقاطعك طالبوا السجائر بلطف حتى تفرغ سجائرك.
*****
مراجع:
1. Mercedes Volait, ABE Journal, Architecture beyond Europe, 3 | 2013 :Dossier : Colonial today