جرار نص الليل
قصة قصيرة عن مسودة للصديق اللواء: هشام الحاوى
وكل الحقوق محفوظة
****
جرار نص الليل
- اسمك وسنك ومهنتك؟
- صابر سعيد مبروك ..
أجاب وعينيه لا تفارقان كف المخبر الغليظة التى أوقفتها اشارة يد الضابط، تأمل الملازم أول جلباب الرجل
الرث والشبشب المقطوع على وقع اسمه الثلاثى فلم يجد توافقاً سوى مع الإسم الأول.. صابر.
واصل العجوز:
- ثلاثة وستين سنة، عالمعاش من سنتين.
- وقبل الزفت المعاش؟
- موظف بالسكه الحديد.
التفت خلفه
تفاديا لصفعة جديدة، وصحح :
- عطشجى
اجتاحت الضابط
عصفة انسانية رائقة على غير عادة بسبب فراغ النقطة بعد منتصف الليل، أو من السيجارة
المحشوة أنهاها لتوه، فابتسم فى وجه العجوز وضغط زر قلمه الشيفر فى محاولة بلاجدوى
لاستكمال المحضر، أشار الى الكرسى أمامه، فارتمى الأخير منهكا من يوم طويل ومن طريحة
المخبرين:
- المرحومة تركت لى ولد وبنتَ عشت عشانهم حتى كبرا
وتزوجا.
استطرد وقد
أعادته ابتسامة الضابط الى عفويتة:
- ربيتهم وحدي بعد ماسابتنى المرحومة لغاية ما كملت المشوار، الواد فني تكييفات وشغال زي الفل، كنت باخد ماهيته واسيبله يادوب
مواصلاته وبنيت له دور فوق بيتنا القديم وجوزته.
ثم هب بعد صمت قصير: "والله يابيه أنا ما مجنون بس هبت مني معرفش أزاي".
ارتشف الماء الذى
أحضره المخبر بتلذذ كأنه عصير، وسال الماء الى حلقه المتشقق:
- فضلت العقربة مراته تزن عليه لحد ما جاب شقه بعيد عنى، و
بطل يودني أو يزورني، حتى التليفون ما بيرفعهوش.
- وبنتك فين؟
سأل الضابط
بفضول وحكاية الرجل تسير فى توازٍ مع خدر لطيف يسرى من السيجارة الثانية.
- البت بفضل الله شغلهتا بالمعارف ممرضة فى مستشفى طنطا العمومى
واتثبت من سنة عشان يبقى لها معاش بعد عمر طويل، واتجوزت روخرة عقبال السامعين دكتور
فى ذات المستشفى، أصلها حلوة وشاطره
- طب احمد ربنا.
- حامده وشاكره، بس برضو راحت منوف مع جوزها، وشويه شويه
أتمنعت من زيارتي روخرة ... قالتها لي بصراحة كده: جوزي دكتور ومش عايز حد يعرف ان حماه على
قده.
أحس الضابط أن
الحكاية تميل للمأساة فتململ، وانصرف الى دفتر الأحوال حائرا فى ترجمة أقوال الرجل
الى الفصحى، وواصل العجوز كأنه يكلم الهواء أويكلم الكون :
- سابوني لوحدي، والدنيا غليت والمعاش بيخلص قبل نص الشهر.
- طيب؟
- من يومين ضربت لى تليفون عند البقال جارنا وقالت لي تعبانه اوي يا با وعايزه اشوفك، قلبى وقعت فى الأرض والدنيا أسودت في وشي، ونسيت أسألها فيكى إيه، كأنى اتشليت
استعاد اتصال
البنت انتباه الضابط من جديد وأحس أن فى القصة عادت إلى الإثارة
- بنتي ساكنه فى محافظة ثانية ولازمها ركوب قطار وبعدين ميكروباص،
والدنيا آخر الشهر، والجنيهات اللى معايا لغاية المعاش ماينزل يادوب تكفينى أكل.
خشى الضابط أن تميل القصة الى الإستجداء، فعبس وأشار
اليه بالاختصار، لكن العجوز استمر فى مخاطبة الكون:
- فضلت يومين أدور على حد يسلفني ملقتش، قعدت على باب
الجامع محدش سأل فيه، أخذتنى رجليا من غير ما أحس لقيتنى في محطه القطار والوقت نص
الليل بالشبشب والجلبيه اللى سعادتك شايفهم دول، وكل اللى فى بالى صوت البت
"تعبانة أوى يابا".
تسرب الضجر الى نفس الملازم أول مكان انسحاب تأثير
السيجارتين من رأسه، وهو حائر فى فقرة ختام المحضر:
- اختصر وخلينا فى عملتك المهببة.
"ليتك
يا عم صابر لم تحكي، ليتنى تركت المحضر للصول" حدث الضابط نفسه وهو يتحسر على
السجائر التى أطارتها المأساة المتمثلة فى هذا الرجل المهدم، كان يأمل فى سهرة
مع فضيحة أو خيانة زوجية أو حالة تحكى
لندمائة فى سهرة الخميس، وثارت شفقته على الرجل الذى انسحبت من جسده الصحة ومن
عينه الضى، وهمه الأكبر بين أولاده ، لكن صوت الرجل أخرجه من شروده:
- والله يا باشا أنا راجل مصلي وأعرف ربنا، صحيح مش دايس
في الدين لكن بخاف ربنا طول عمري.
- خلينا فى المصبة اللى عملتها، وكيل النيابة قرب ييجى،
انا مش فاضيلك.
- وأنا في محطه القطار لقيت الجرار جه وقف قدامى، ونزل
السواق يشرب شاي ويجيب الزوادة عشان الوردية اللى جاية وساب الجرار بيطلع دخان،
دخلته سعادتك اتحامى من البرد ، لقيت عصايه الجرار في النص عالمور، مادريتش الا بصوت بنتى بتقول تعبانة يابا، عشقت
العصاية زى زمان ورحت طالع بيه أشوف بنتي وأرجع علي طول.
قام من مقعده
وواصل مع حركات يديه فى حركة دائرية، كأنه يسوق قطاراً، فانتبه الضابط والمخبرون
والتفوا حوله خشية هروبه، وواصل العجوز غير ملتفت الى أحد:
- وشرفك يا بيه كنت حاوصل منوف وارجع على طول، أنا مش
حرامى، ولو حرامى حاسرقه أروح بيه فين بعيد عن القضيب؟ حبيت أشوف آخر حاجه حلوه فى
دنيتى ، مفكرتش في حاجه تانيه.
شديت الزمارة
... توووت توووت عشان يفضولى السكة زى زمان، مشيت شوبة فى أمانة الله، توووت
توووت.
متفهمش
المحولجى قفل عليا وللا أنا سقت طوالى بدل ما ألف، انقلب الجرار منى.. أربعين سنة
فى الخدمة ماحصلتش ، لكن النصيب بقى....
نفذت بشائر
الصباح من شباك النقطة مع ختام المحضر، وقام
عم صابر الى الحجز يتقدم المخبرين كأنه سيرشدهم اليه.
طنطا – 1984