بهجة الأنيس برؤية نيس- عاصمة الريفيرا

الريفيرا الفرنسية  (1)

"ريفيرا" كلمة إيطالية تعني "ساحل ذي شاطئ"، وكانت تُطلق على الشريط الساحلي من بعد "بيزا" الإيطالية الي "تولون" الفرنسية إذ كان تحت سيطرة إيطاليا، فلما انتقل الجزء الفرنسي الي فرنسا عام 1860 انقسمت الي ريفيرا إيطالية واخري فرنسية، ثم صار يراد به الساحل الفرنسي إذا قيل منفردا بعد أن زادت شهرته، وهو الاقليم الساحر الذي فيه تلتقي جبال الألب البيضاء بزرقة البحر المتوسط.

ساحل نيس بالليل

 ساحل نيس بالليل 

الريفيرا الفرنسية

بُعَيد انتهاء حرب فرنسا وبروسيا عام 1871، ساد أوروبا سلام استمر حتي بداية الحرب العالمية الأولي، سمي في التاريخ بالحقبة الحسنة "Belle  Époque" ، مدت خلالها فرنسا خطوط القطار لجذب البريطانيين الأثرياء إلى جنوبها الدافئ، وبعد فترة تبعهم أمير ويلز هربا الى شمس كان الشتوية أو من بروتوكول البلاط الثقيل، ويبدو أن نبلاءً من روسيا والسويد والدنمارك وممالك أوروبا قد استحسنوا الفكرة فحذوا حذوه في المواسم التالية، ثم تبعهم بالطبع مصرفيون وتجار وصناعيون ورجال الأعمال، ثم فنانون وكتابً بحثًا عن أشعة الشمس أو بحثا عن الرعاية، وهكذا اكتسب الاقليم سمعته كمنتجعا ً للصفوة.

وكثيرٌ من هواة السفر يزورون باريس ويفوتهم هذه الوجه لضيق الوقت أو ربما خشية التكلفة، فاسم الريفيرا الفرنسية ببلداتها كان ومونت كارلو مقترن بالفخامة والثراء،  فهل لها من سبيل معتدل التكلفة، أم أنها قصرا علي صفوة القوم؟ 

 

نيس المدينة القديمة

نيس المدينة القديمة

نيس... عاصمة الريفيرا

عزمت السفر إذا إلى الريفيرا ومدنها، ولم يكن في جيبي يومئذ مهرها، فقررت حساب التكلفة كالمعتاد، وزرت شركة سفر شهرين قبل الميعاد، قائلاً لنفسي: إذا ابتعدت عن الصيف قدر الإمكان، وبكّرت في حجز الطيران، ظفَرتُ بسعر رخيص يقرب من المجان، ولما مرت الأيام وأعلن الطيار الوصول الي مطار نيس(كوت دازور)، رحت أؤخر الساعة على توقيت الإقليم، وصلت إذاً أول النهار، وإن كنت قد كابدت الطيران لخمس ساعات، فلأمُني النفس بما هو آت.

كنيسة نيس  (Notre-Dame de Nice)

ذهبت إلى نُزُلٍ في وسط المدينة كما أفعل دوماً، وقد أحسنت بذلك صنعاً: فأول ماتخطو خارجاً من محطة الترام إذا بك في شارع نيس الأشهر (أفينيو جون ميدسان) فلا تملك إلا أن تبتهج لما تري.

وهنا لا تخطئ العين من أول لحظة خط السماء المُوحد على مد البصر، وهذا الشارع الجميل ليس استثناءً، فمبانيه على الجانبين أربعة طوابق بلا زيادة، الأسطُحُ أغلبها مائل بجمالون من القرميد الأحمر، لكن يظل الخط مستقيماً من أول الشارع إلى آخره، لا يقطعه إلا برجا جرس كنيسة انتقال العذراء إلى السماء (Notre-Dame de l’Assomption) التي تشبه كاتدرائية نوتر دام باريس، وتعتبر مثالاً للطراز القوطي الخالص بكل عناصره، وخلفهم جميعًا بحرٌ من زرقة السماء التي كانت صافية في ذلك اليوم.

***** 

تختلف معايير جمال الشوارع من شخص لآخر؛ فقد ترى الجمال في فخامة ناطحات سحاب على جانبيه، أو في ظل شجر عتيق على دفتيه…وهكذا، أما معايير التخطيط فيأتي على رأسها «خط السماء المعماري»، وهو الخط الفاصل بين الحدود الخارجية للمشهد المعماري من جهة والسماء بألوانها المختلفة من جهة أخرى

شارع جون ميدسان

حتى النظر من نافذة الفندق كان مبهجا: الشارع... الناس... الترام... بنايات ملونة بارتفاع واحد وشرفات حديدية...ما أجمل هذه القبة الكلاسيكية وقد كسيت بقرميد ملون في صفوف زجزاجية...لابد أن لها هيكلا داخليا من الحديد، وأعمال الزخرفة الجصية هذه والكوابيل باللونين الأبيض والكريم، كل ذلك في أرضية من زرقة السماء.
ألا يكفي تأمل كل ذلك من النافذة أم يجب النزول إلى المدينة؟ ألم يلزم فان جوخ غرفة "سان ريمي دي بروفانس" شهورا يتأمل "حقول القمح" من النافذة؟ ومنها رسم لوحاته الشهيرة بنفس الاسم، في كل لوحة منها ألوانٍ متغيرة ليومٍ جديدٍ مع حركة الشمس؟ والرسام هنري ماتيس... ألم يكتفي أيضا بنافذة الغرفة 35 من فندق "ڤيلا دي فرانس" ورسم منها عشرات اللوحات للمدينة العتيقة والأسوار وخلفهما جبال أوربا الخضراء؟ حتى وقع أخيرا في حب النافذة نفسها...ثم خلدها في لوحة "النافذة المفتوحة".

وأخيرا... ألم يكونا من ساكني الجنوب الفرنسي قريبا من مكاني هذا؟  ...ولكنني لست رساما انطباعيا كفان جوخ ولا تعبيريا كهنري ماتيس... ولا حتى فنانا من الأساس.. فلأنزل الي الشارع لأري الناس.
جانب من مباني الشارع كما بدا من نافذة الفندق

مباني الشارع


يقول الإمام الشافعي:
وسافر… ففي الأسفار خمس فوائدِ؛ تفريج هم واكتساب معيـــشةٍ وعلـــمٌ وآدابٌ وصحـــــبةُ ماجدِ
ولاكتساب هذا العلم وهذه الآداب واجب منزلي من القراءة عن البلد ومزاراته، بداية من أشهر المزارات العشر أو العشرين (Top Attractions) ثم القراءة عن كل منها بالتفصيل ان أمكن مثل (Historic Buildings Tour - جولة في مباني نيس التاريخية بدون مرشد) (2)، إلى مواقع الدردشة (Chat rooms) والمدونات (Blogs) والمنتديات (Forums) عن المكان الذي تنويه... لتعلم خبر من سبقك اليه، فلأغلب المزارات والمتاحف رسم دخول مُكلف، ولبعضها أيضا مواعيد مجانية، ومثال ذلك:

  • متحف ماتيس: مجاني في الأحد الأول من كل شهر، بدلاً من 8 يوروهات.
  • متحف اللوفر: مجاني في عيد فرنسا الوطني (14 يوليو/تموز من كل عام)، بدلاً من 24 يورو.
  • تذكرة المتاحف المجمعة: 10 يوروهات تتيح 14 متحفاً في نيس في نفس اليوم، بدلاً من 6 أو 8 فقط.
  • تخفيضات الطلبة ودارسي الفنون: وهي موضحة في كتالوجات ومواقع النت

******

الترام الهادئ: 

يطول شارع جون ميدسان حوالي الكيلومتر... لا تشعر فيه بتعب ولا ملل، تصحبك المقاعد الخشبية على الجانبين وعازفي الموسيقي بقبعاتهم على الأرض تتلقي سنتات المارة حتى ميدان مآسينا، ناهيك عن تأمل المباني والمتاجر بألوانها وأضوائها.. بل حتى المارة أنفسهم بجنسياتهم المتعددة وملابسهم الشتوية الأنيقة

مر الترام بجواري تماما، اذ كان شريطُهُ في مستوي البلاط فلا يَتَعثر به السائروناثار تعايش الناس والترام معا في النفسِ حسرة على شوارع تاريخية في القاهرة اقتلع وتُرِكَت نهبا للسيارات الخاصة، تري ما كان حال شارع محمد علي مثلا إذا خصص للمشاة وبقيَ ترامه؟ أكانت المنطقة من ميدان العتبة حتى باب الخلق لتصبح جون ميديسان الشرق ... كما كانت القاهرة نفسها باريس الشرق؟

اما مسيو "جان مديسان" الذي يحمل الشارع والمحطة وأماكن أخري اسمه فهو عمدة مدينة نيس (الُمنتَخَب) من عام 1928 حتى عام 1943 حين أبعده الفاشيين عن منصبه، ثم انتخب ثانية بعد جلائهم من عام 1947 حتى وفاته عام 1965، وعندها انتخب أهالي نيس ولده "جاك مديسان" خلفاً له... وظل في المنصب حتى عام 1990، فما الذي جعل النيسيون يلتصقون بعمدة وللده لما يقرب من القرن وهم الذين يملون الحكم الطويل؟ هل تقديرا لمقاومتهم للفاشية؟ لكن الفرنسيون أعرضوا عن ديجول في أوج انتصاره على النازي وانتخبوا سواه للرئاسة؟  بقي هذا السؤال معلقا حتى رأيت صورا للمدينة في القرن الماضي في متحف البلدية. 



ميدان ماسينا الكبير

                                          ميدان ماسينا الكبير

ساحة ميدان Massena

ينتهي الشارع جنوبا عند نافورة "ينبوع الشمس" التي تتوسط "مآسينا" أكبر ميادين نيس... ما أبدع هذا الاتساع...هذا الميدان تُعقد فيه الحفلات الموسيقية والمهرجانات وباقي مناسبات المدينة كالكرنفال السنوي الذي بدأ الاحتفال به عام 1876 ثم بعد ذلك في منتصف فبراير من كل عام، يقام في الميدان مسرح كبير ويقدم الي نيس نصف مليون سائح خلال أسبوعين تحفل شوارعها فيهما بألوان كل أنواع الزهور، خاصة زهرة الميموزا (Mimosa) التي تسمي في نيس بملكة الشتاء وتوزع البلدية منها أطنانا على السائحين، فظللت أتحسر إذ لن أحضر ذلك الكرنفال الباهر...حتي تعزيت بعد أيام بمهرجان من نوع آخر.

نافورة الشمس وتمثال أبولو


    Fontaine du Soleil

أما نافورته الجذابة فيقف فيها تمثالاً بطول 7 أمتار لأبولو إله الشمس عند الاغريق...  محاطاً بخمسة تماثيل برونزية تمثل الأرض والمريخ وعطارد والزهرة وزحل، وقد قصد بها النحات "ألفريد جانيو" عام 1956 الي أبعد من مجرد التماثيل:
أما نافورته الجذابة فيقف فيها تمثالاً بطول 7 أمتار لأبولو إله الشمس عند الاغريق...  محاطاً بخمسة تماثيل برونزية تمثل الأرض والمريخ وعطارد والزهرة وزحل، وقد قصد بها النحات "ألفريد جانيو" عام 1956 الي أبعد من مجرد التماثيل:
فأبولو يرمز إلى نيس التي تسطع شمسها أغلب أيام السنة، وهي تتوسط العالم كما تتوسط الشمس الكون، والتماثيل تسير بالطبع علي نهج الثقافة الإغريقية التي ترى في التعري فضيلة أخلاقية لأنها طبيعة الإنسان الاصلية... واضافة الملابس يفسد الجسد. تحدد الميدان مباني زهرية اللون ذات بواكي وطوابقٌ ثلاثة تعلوها أسقف جمالونية حمراء تحيط بتمثال النافورة الكبير في شبه دائرة من كل الجهات الا واحدة يأتي منها صوتُ موجٍ قريب... فتبعته فاذا شاطئ البحر غير بعيد.

مباني الميدان الملونة
  

خليج الملائكة


يهدأ الموج في هذا الجزء من الساحل بسبب الخليج، إلا أن ذلك لم يحم الشاطئ من النحر، يحاذي الشاطئ ممشى عريض سُمي منذ قرن ونصف «الممشى الإنجليزي» Promenade des Anglais، كونه السائح الرئيسي للمدينة هرباً من شتاء إنجلترا الشهير، بينما تتراوح في نيس بين العشرة والعشرين درجة، مع سطوع شمس النهار 

الممشى الإنجليزي

يمتد الممشى من تل المدينة القديمة حتى يجاوز المطار، ورغم ذلك لا يراودك ملل لتنوع مشاهده من أشجار وبرجولات، وممشى للمتريضين، ومقاعد على الجانبين، كان الشاطئ مفروشاً بحصى أسود والمسطافون يفترشون ما يجنبهم خشونته الأرض، فزهوت بشواطئنا ورملها الناعم على الناحية المقابلة من المتوسط ، ثم حزنت لذات السبب، فقد زار هذا الإقليم وحده عام 2017 نحو 11 مليون سائح... تم تغذية شاطئ نيس بطول 4.5 كيلومتر بكميات تصل إلى 600 ألف متر مكعب من الحصى في 30 عاما، فالحصى أثقل من أن يحمله الموج أو الجزر، وذلك للحفاظ على عرض يتراوح بين 25 و37 مترًا، وتحقيق استقرار الشاطئ والحفاظ على قدرته الاستيعابية للمستحمين. [1]  


لقطة من فيلم خليج الملائكة
جين مورو في لقطة من فيلم خليج الملائكة

ومثل «السلم الإسباني» في روما وأماكن شهيرة أخرى في أوروبا، كان الممشى مُوقعاً لعدة أفلام تدور أحداثها حوله أو قريباً منه، كالفيلم الشهير «خليج الملائكة - 1963 جين مورو وكلود مان» الذي تدور أحداثه حول إدمان القمار، والذي تنتشر نواديه بطول الشاطئ على الجانب المقابل من الشارع.

حول المعماري «ميشيل بينا» الممشى من مجرد كورنيش إلى متنزهٍ من ملاعب وأكشاكًا للمشروبات، وكذلك بركة مياه سطحية (Reflecting pool) يبرز منها 128 رشاشًا أرضيًا بنمط عشوائي يدعو - ليس الأطفال فقط - إلى المرح وتوقع من أين سيخرج الماء حتى ولو ابتلت ملابسهم، وعلى الجانب المقابل تتراص مبانٍ ذات تاريخ كفندق نيجرسكو ( Negresco)، الذي يشهد علي عراقته صور ضيوفه على مدار قرنِ من الزمان تزين البهو: مثل «سلفادور دالي» و«جريس» أميرة موناكو و«البيتلز»، وآخرين. 


موضوعات ذات صلة: الي ساحل الريفيرا (3) مونتي كارلو

فنادق نيس العريقة وقرن من الزمان- نجرسكو
   مباني كورنيش نيس 
متحف «ماسينا» وتاريخ نيس

تقترب الحرارة رويداً من الدرجة الصغرى مع ميل الشمس للمغيب، ويحث لسع الهواءعلى مفارقة الممشى عند  متحف «مآسينا»، في قصر قوطي جميل كان قصراً للدوق «فيكتور ماسينا» حتي عام 1921، وتري فيه تاريخ عائلة ماسينا مرتبطاً بتاريخ نيس في غرفة العشرين، ففي الطابق الأول أعمال فنية ومفروشات لعائلة مآسينا أنفسهم، أما الثاني فيعرض تاريخ نيس من القرن 19 حتي الحرب العالمية الثانية، وأما الثالث فيعرض تذكارات نابليون وزوجته جوزفين، بما في ذلك تاجها وبعض رسائلهما، بالإضافة إلى وثائق تاريخية وصور وملصقات سياحية من مطلع القرن، أما القطعة الأثرية الأكثر إثارة للاهتمام   فهي «قناع الموت لنابليون».

يُصنع قناع الموت لحفظ صورة طبق الأصل للميت، خاصة الشخصيات التاريخية، ويتم ذلك بسكب الجص أو الشمع على وجهه فور وفاته لصنع القالب، وكانت هذه الطريقة سائدة في العصور الوسطى حتى تقدم التصوير الفوتوغرافي فتوقفت، وقد أطلق هوارد كارتر عام 1925 على قناع توت عنخ آمون نفس الاسم عند اكتشاف المقبرة، إلا أن أقنعة الفراعنة كانت تُصوَّر لهم بالنحت في حياتهم.

في طريق العودة تسير في اتجاه شمال الشرق شمالاً من المتحف، متجهاً نحو جون ميدسان، فتقطع شبكة من شوارع المشاة المبهرة، زاخرة بالبوتيكات ومحال المجوهرات الفاخرة، مثل شارع «أفينيو دو فيردون» حيث تتراص الماركات العالمية على جانبيه، وشارع «بلاس ماجنتا» بطابعه الأنيق، وشوارع أخرى عديدة أعياني حفظ أسمائها، وتضم جميعها مقاهي ومقاعد خارجية للاستراحة بين جولات التسوق، كان ليل المدينة نهاراً بفعل الأضواء المعلقة متعددة التصاميم، كما صادف اليوم ما يسمى «الجمعة السوداء» للتخفيضات ، والناس يمشون في تيار كسيل تُلوّنه الحقائب... حصيلة يوم طويل من التسوق.

أقرأ أيضا: الي ساحل الريفيرا: موناكو (2)

المراجع

Search Results

Web result


هناك تعليقان (2):

tanirah يقول...

مقال رائع

Magdy elZoghby يقول...

شكرا جزيلا علي التعليق الايجابي، أرجو أن تتابع بقية مقالات الريفيرا في المدونة https://www.mozaik.online/2020/05/2.html

المتابعون