في زمن كورونا : كيف تبني مستشفى في عشرة أيام

كيف تبني مستشفى في عشرة أيام؟ 

في ظل غزو الجائحة للكرة الأرضية، تتسابق الدول لاحتواء فيروس «كوفيد-19» التاجي، كلٌ حسب معدلات الإصابة وحسب استراتيجية المواجهة التي تتبناها، والمراكز الطارئة لمقاومة تفشيه، وهذه قراءة في مثالين بينهما آلاف الأميال لمستشفى طوارئ بُنيت في وقت قياسي، لكل منهما نقاط التصميم ما يمكن أن يُستفاد بها اذا دعت الحاجة. 


اقرأ المقال علي موقع: اضاءات (محتوي عربي) 

مركز «أكسيل» للمؤتمرات / مستشفى نايتنغيل (لندن )

نشر موقع "الغارديان" بتاريخ 7 ابريل الجاري مقالا بعنوان "كيف تبني مستشفى في تسعة أيام"، يتحدث كاتبه أوليفر وينرايت عن انبهار البريطانيون بإنجاز رائع تم في تسعة أيام فقط، بتحويل منشأة قائمة إلى مستشفى مجهز مستعد لاستقبال مصابي الكورونا، بكل ما تضم بالطبع من معامل وعنابر العناية الفائقة وأقسام أخري لازمة لمواجهة الجائحة العالمية، ثم تساءل في متن المقال ان كان الفضل في هذا الانجاز يعود الي "نوع جديد من الهندسة المعمارية"(1). 

***** 
هندصة الطوارئ:

تُدَرس هندسة الطوارئ في الجامعة من سنوات على أنها: "الهندسة التي تُعنَي بمواجهة كوارث تطرأ على المجتمعات بغير توقع"، أما الجديد هذه المرة فهو عالمية الجائحة، والأخبار المنهمرة على مدار الساعة حول كل ما يمت لها بصلة. 
ويُلجأ إلى هندسة الطوارئ في حالتين في الغالب، الأولى: لتوفير إيواء عاجل أو مؤقت لضحايا الكوارث كالزلازل والأعاصير وما شابه، ويتميز تصميها عندئذ بحل معياري مؤقت يُلبي احتياجات الإنسان الأساسية، أي كملجأ معماري للحماية مع تركيز أقل على التصميم الداخلي. 
أما الحالة الثانية فهي المتعلقة بمقال الغارديان وهي الأكثر تعقيدًا، إذ تهدف إلى توفير وحدات طوارئ كمستشفيات مؤقتة، توفر ليس فقط الحماية والاحتياجات الأساسية بل أيضًا تجهيزات طبية كاملة ومعقمة ووحدات عناية فائقة... الخ ، وقد تكرر استخدام هذا النوع في عدة مناسبات من قبل، أشهرها ربما جائحتي السارس عام 2002 وكانت في الصين كذلك، ووباء الإيبولا الذي يظهر في بلدان وسط أفريقيا من وقت لآخر منذ عام 1976. 
ويمكن القول بشكل موجز إن المعيار الأساسي لهندسة الطوارئ هو تصميم وحدات نمطية تساعد على سرعة الإنتاج والتركيب، سواءً في الهيكل المعماري أو المحتوى الداخلي، على أن تكون لها القدرة على التكيف، فيمكن دمجها بطرق مختلفة حسب الحاجة، وفي مساحات وبأشكال وأبعاد مختلفة كذلك، ومن النماذج الشهيرة على سبيل المثال نموذج (Kukil Han) لوحدة قياسية لمستشفى متنقل: عبارة عن حاوية صممها الكوري الجنوبي «كوليل هان»، يمكن توسيعها إلى هيكل طبي بثلاثة أضعاف حجمها الأصلي، وتحمل الأسرة واللوازم، والخلية الواحدة تتكون من عنبرين يتوسطهما ممر انتظار ومقر للطاقم الطبي ولها قابلية التجميع لإنشاء مستشفى صغير، كما في الصورة: 


نموذج (Kukil Han) لوحدة قياسية لمستشفى متنقل./ MJAF Journals

صمّم هان نموذجه ليتكيف مع سيناريوهات الطوارئ، وبإستراتيجية «اذهب إلى أي مكان» لتقديم المساعدة الطبية، إذ يمكن نشر هذا المستشفى باستخدام الهليكوبتر إلى أي مكان في غضون ساعات. 
ولقد تابع أغلبنا على مدار شهرين نوعين من هندسة الطوارئ، أحدهما في آسيا والثاني في أوروبا، أثار كلاهما الإعجاب، رغم ما يصحب الموضوع من ألم، وذلك لما يحملانه من أمل في قدرة الإنسان على مواجهة الجائحة:

*****

مستشفى «هووشينشان» – الصين 

وهو مثال على بناء مستشفى ميداني من الصفر، ففي الثاني من فبراير/شباط من هذا العام فاجأت الصين العالم مرة ثانية، بعد أن فاجأته في المرة الأولى بالفيروس قبل شهور، وذلك عندما كشفت عن اكتمال مستشفى ضخم بووهان -بؤرة الفيروس- واستقبال أول مريض، بعد عشرة أيام فقط من بدء الإنشاءات. 
كان عدد القتلى قد قارب الـ 700 والمصابين 40 ألفًا على مستوى العالم قبل نهاية يناير، ومع استمرار صعود أرقام ووهان، شرعت في المشروع الضخم ليخفف الضغط على نظام الرعاية الصحية المثقل، وليمكن المستشفيات العامة من الاستمرار فيما تقوم به من رعاية المرضى العاديين وإبقائهم بعيدًا عن مصابي الفيروس، فسُمح للمرضى الذين تأكدت إصابتهم بالفيروس فقط بالدخول إلى مستشفى الطوارئ هذا. 
بدأ العمل في تسوية الأرض في 23 يناير/كانون الثاني بفريق عمل في طور التكون، حتى بلغ 7 آلاف شخص وقت ذروته، يعملون على ثلاث نوبات، ليكتمل مستشفى من طابقين على مساحة 60 ألف مترٍ مُربع في عشرة أيام، شاملة تجهيزات ألف سرير و30 وحدة عناية مركزة وأجنحة الحجر الصحي… إلى آخر الأقسام المعروفة، إلا أنه مع الجهد الكثيف فإن حجم وسرعة البناء لم يكن ليتم لولا الوحدات سابقة التجهيز وبنية الصين التحتية الهائلة في التصنيع. 


موقع «هووشينشان» عند البدء وأثناء التنفيذ. 

وكما أن مستشفيات الطوارئ المؤقتة تشترك في المواصفات مع تلك الدائمة إلى حد كبير، الا ان لمواجهة فيرس معين تؤخذ اعتبارات إضافية في الحسبان، كما نقرأ في تصميم وتنفيذ مستشفيي "هووشينشان" الميداني: 
- رغم أن متوسط أجر العامل الشهري عادة هو تسعة الاف، الا انه تقاضي في المشروع عشرة الاف يوان عن 8 أيام عمل فقط، وذلك أخذا في الاعتبار فترة عزل منزلي بلا عمل لأسبوعين بعد اكتمال الانشاء(3). 
- وحدات المستشفي مرفوعة على أعمدة لعزلها عن الأرض احتياطا من التلوث، كما أن كل وحدة تضم سريرين لا أكثر لضمان التباعد القياسي. 
- صممت للمستشفي أنظمة تهوية خاصة، كما صمم ضغط الهواء داخل الغرف سالبا لمنع الكائنات الدقيقة من الانتقال جواً الي الخارج. 
- صممت الغرف بخزائن مزدوجة الجوانب تربطها بالممرات، مما يتيح لموظفي المستشفى توصيل الإمدادات دون دخول غرف المرضي. 
- أغلب المواد المستخدمة تتحمل المواد الكيميائية التي تستعمل بكثافة لدواعي النظافة والتعقيم. 
- لم توصل شبكة المياه ولا الصرف الي بنية تحتية مجاورة، بل الي شبكات مستقلة تؤدي إلى أنظمة قد يستحيل إصلاحها أو تطهيرها في المستقبل. 
- تم تسليم المستشفى الي إدارة الجيش الصيني، كما رُبِط بنظام فيديو مراقب من قبل مركز الجيش في بكين. 


المسافة الآمنة بين الأسرة

- كانت خبرات مواجهة الأوبئة المتراكمة ذات نفع كبير، فقد تم تصميم المستشفى على غرار مستشفى (Xiaotangshan) الذي تم بناؤه في بكين في ستة أيام لمواجهة السارس عام 2003، فعلي سبيل المثال كان تجميع أو تقسيم عنابر المرضى على أساس مستوى الخطر الذي يشكلونه، كما قال "كواه" كبير الأطباء الذي ساهم في مواجهة سارس من قبل: - "إذا لم تبدأ في فصل الأشخاص، فسيكون لديك شاب صغير يبلغ من العمر 20 عامًا مع فيروس تاجي جديد ، بجانب رجل يبلغ من العمر 65 عامًا يحتاج إلى فحص قلبه "(3) 
- وعلى نسق مستشفيات الإيبولا: صمم المستشفي ليكون به حاجزان، واحد "قذر" والآخر" نظيف"، ويكون هذا الأخير جهة الطاقم الذي لم يُصَب، بينما المشتبه أو المُتأكد من اصابته فعلى الحاجز الآخر(3)، أُخذ في الاعتبار مسافة لا تقل عن المتر ونصف بين تلك الحواجز، لتجنب انتقال الفيروس، وتظهر الصور الجوية للمنشأة التي تناقلتها المواقع، عنابر مستطيلة طويلة تتصل بالمحور المركزي، ثم مجموعة ثانية أصغر من الهياكل منفصلة عنه، لنفس السبب. 
- وضعت أيضًا مناطق التطهير كفاصل بين الأجنحة ومركز القيادة والتشغيل، وذلك لخفض المخاطر علي مقدمو الرعاية الصحية. 
- كان يلزم تحديد حركة المرضى داخل المستشفى وفي نفس الوقت مراعاة حاجتهم إلى التحرك خاصة الي المراحيض على سبيل المثال، فكان من الضروري التفكير في المساحة بين المرضى والممرات والمرافق - وإقامة الحواجز بينهم، وكذلك وضع علامات الحركة واضحة على المداخل والمخارج. 
ثم لم يمض اسبوعا على هذا الإنجاز حتي افتتحت الصين مستشفى ميداني ثانٍ (ليشينشان- Leishenshan) باستخدام نفس النموذج، وتم كل من المشروعان بتعبئة ومتابعة شعبية واسعة، اذ بثت إذاعة الدولة (China Media Group) وحققت مراحل بناء المستشفيين بمجموع 18 مليون مشاهدة لهما معا(4). 
هذا بخلاف استخدام صالة يوهان المؤقتة كمستشفي مؤقت حتي تستطيع مواجهة مباغتة الجائحة ورفع الضخط عن المستشفيات العامة.


*****

2. مستشفى «نايتنجيل» Nightingale – بريطانيا 

أما المثال الآخر فهو تحويل مبني قائم بالفعل الي استعمال غير الذي بني من أجله، كما فعلت المملكة المتحدة مع مركز مؤتمرات ExCel شرق لندن، الذي حُولَ إلى مستشفى "Nightingale" للطوارئ، ليستوعب أربعة ألاف مصاب، إضافة الي وحدات خارجية جديدة لتشريح وحفظ الجثث علي مساحة بحجم ملعبي كرة قدم، في عملية يصفها كاتب المقال الغارديان: "واحدة من أكبر عمليات تعبئة البنية التحتية المؤقتة في وقت السلم، بدءا من مستودعات الموتى المتنقلة، مرورا بمراكز إجراء الاختبارات ثم عنابر العناية الفائقة، إنه جهد أولمبي شمل نصب سقالات وإقامة خيام قابلة للنفخ وكبائن محمولة، وإعادة استخدام المباني الحالية في غضون أيام، بل كان يجب البدء في البناء حتى قبل الانتهاء من وضع الرسومات"(1). 
ويضيف الكاتب نقلا عن أحد المهندسين: " إذا طلب منك تصميم مستشفى مثل هذا، فستقول عادةً إنك بحاجة إلى ستة أشهر وفريق كبير من الأفراد المختارين بعناية، وليس مجموعة من الأشخاص يتم جمعهم في عطلة نهاية الأسبوع، لقد تحول الموقع الي خط إنتاج يعمل على مدار الساعة". 
ويشرح جيمس هيبورن- أحد مصممي المشروع، خطة العمل: "كانت الاستراتيجية أن نستخدم أكبر قدر ممكن من بنية المعرض التحتية، ونظرا لإغلاق العديد من المصانع وشح المستلزمات، استخدمنا الألواح التي تفصل بين أقسام العرض بعد إضافة بعض الصلابة إليها لتصبح أَسرة، ثم مددنا خطوط الكهرباء والمياه والصرف الصحي والغاز الطبي في مجرى طويل أنشئ في الخلف"(1) 
وقد وقع الاختيار علي مركز المؤتمرات للطبيعة المرنة لهذا النوع من المباني، وخلوه من حوائط داخلية تعوق عملية التحويل، فالقاعات الكبرة التي تستضيف عادة معارض المصنوعات أو معارض الأسلحة الدولية... وماالي ذلك، تستضيف اليوم الخدمات الطبية، والصالة المركزية بين قاعات المؤتمرات التي تستضيف أجنحة الشركات أصبحت منطقة للرقابة يرتدي فيها الأطباء ملابسهم الواقية ويحفظون المواد الطبية، في حين أصبحت المقاهي مناطق للراحة التي لا غني عنها. 
حرص المصمم أيضا أن يتمكن الطبيب من رؤىة المرضي علي صفوف الأسرة دون عوائق كما تري في صور وفيديوهات للمستشفي بعد اكتماله، فعلي الأطباء في هذه الظروف الاستثنائية أن يتابعوا عدداً من المرضى أكبر من المعتاد. 
أما الجزء المضاف خارج مركز المؤتمرات فيعود إنجازه إلى شركة كبرى في تصنيع الكبائن سابقة التجهيز Portakabin، تحوي سابقة أعمالها مستشفى طوارئ في جزر فوكلاند خلال حرب الثمانينيات، ومدرسة ثانوية في تسعة أسابيع بعد حريق برج جرينفيل... الخ، فكانت هذه المرة عملاً شبه تقليدي لشركة اعتادت على الاستجابة السريعة، رغم ما شاب هذه المرة من حلول خاصة لتتواءم مع طبيعة مواجهة فيروس كورونا. 
الخاتمة 
هل يمكن أن تقدم هذه التجربة بعض الدروس للبلاد التي لم تبلغ ذروة العدوى بعد، ونسأل الله ألا تبلغها... خاصة في بلادنا ومحيطنا العربي، إلا أن التخطيط المُسبق وإعداد السيناريوهات المحتملة قد أثبتا نجاحًا وتقليلاً لعدد الضحايا، على الأقل في حالة ووهان حتى الآن. 

المراجع: 


ليست هناك تعليقات:

المتابعون